هل من أمل في الثورات؟ وهل المعارضة ممكنة؟ وهل هناك إمكانية للتغيير الجذري؟ واذا كان الأمر كذلك، فمن أين يولد الأمل؟
بعد سنوات عجاف عاد الناس ليقبضوا على جمر مصيرهم بأيديهم. المشهد الأساسيّ هو مشهد الثورات العربية من تونس إلى سورية مرورا بمصر وليبيا واليمن. سال دم كثير ودموع أكثر، إلا أنّ رياح التغيير التي هبّت هذه المرة في الشرق وصلت عدواها إلى الغرب، وخرج الناس في أثينا وإسبانيا ونيويورك إلى الشوارع.
طفا سؤال الأمل من جديد على السطح الراكد في فلسطين، حين قامت مؤخرًا مجموعة من الشبّان والشابات ببناء قرية “باب الشمس” على أرض فلسطينية مصادرة تطلّ على القدس. أعاد الناس اكتشاف البديهي، وهو قدرتهم على أن يغيّروا سطرًا واحدًا في الرواية، وأن يفتحوا كوّة في الجدار يتسلّل منها الضوء إلى عتمة طال مداها. قال لنا هؤلاء الشبان إنّ المرء لا يحتاج إلى أن يذهب بعيدًا ليكتشف طاقاته الكامنة بل عليه أن يجمع بين الخيال والإرادة، وإنّ ذروة الخيال تكمن في اكتشاف المعجزة في البديهي الحاضر هنا والآن.
هل الثورة ممكنة؟ والمقصود ليس هذه الثورة أو تلك، في هذا البلد أو ذاك، إنما هل الثورة ممكنة أصلا؟ أي هل هناك دلالة مفهومية متماسكة وحقيقية تدعى الثورة؟ أو أنّ ما كان سوف يكون ولا جديد تحت الشمس؟
للشك مداخل كثيرة وأبواب عدة. أول هذه المداخل هو الاعتقاد بأن للتاريخ مشيئته الخاصة، وبأنه يجد طريقه من خلف ظهر الأبطال وبغض النظر عن نياتهم ورغباتهم. لكأنه هو البطل الحقيقيّ الوحيد، وهو يسخر دائما من أبطاله، ومن محاولاتهم لتغيير مساره. ينشط البشر عموما في سياق عصيّ على القبض ومن دون القدرة على الإحاطة بتلابيبه، إذ يبدو كلّ فعل باعتباره ضربة في الظلام، ولا يستطيع المرء إدراك دلالة فعله إلا بعد انقشاع الظلام وبزوغ الفجر. فقط عندها يفرد طائر الحكمة (كما علمنا هيغل) جناحيه. لا يفهم المرء مغزى فعله إلاّ بعد أن يسدل الستارة على المرحلة، ولا يعرف المرء حدود المرحلة مسبقا إلاّ في نهايتها. هكذا يبدو الفعل فعلاً عشوائيا دائما وأبدا، وتحضر الحكمة متأخرة دائمًا وفقط بعد انتهاء الفعل.
الأمل لا يكمن في حتمية التقدم إنّما في إمكانية التقدم. إذ كما أنّه يتعذّر علينا أن نبرهن على أنّ التاريخ يسير بنا نحو النهاية السعيدة، فإنّه يتعذر علينا أن نبرهن أيضًا أنّنا نسير نحو الكارثة
يسخر التاريخ من النيات ومن الإرادة، لأنّ للتاريخ نياته الخفيّة وخططه الخاصّة به. إسألوا غورباتشوف عن نياته بتجديد الاشتراكية التي انتهت إلى القضاء على المشروع الاشتراكي، واسألوا الأميركيين الذين رغبوا في السيطرة على العراق فغزوه، ليكتشفوا لاحقًا أنهم قد سلموه على طبق من فضة لأياد إيرانية. واسألوا إسرائيل التي تساهلت مع حماس بداية حتى تحوّلت إلى ألدّ أعدائها، واسألوا شباب الثورة في ميدان التحرير الذين ناضلوا من أجل الحرية والمساواة فانتهوا إلى حكم “الإخوان”.
لا يترك هذا النموذج أسبابًا كثيرة للتفاؤل، ليس لأنّ التاريخ لا يعدنا بشيء ولا مسار له، إنما لأننا غير قادرين على اكتشاف منطق التاريخ بأنفسناـ فتتعذر علينا المشاركة الفاعلة الواعية في صوغ حبكته.
فقد يكون هناك أمل، لكننا كبشر نقيم في العتمة، وقد يكون للتاريخ مسار لكننا غير مؤهلين لإدراكه.
هذا المنطق قد يحضر في صيغة قاتمة أكثر، وعندها يكون الادعاء بأننا نعمل دائماً وأبداً في سياق اجتماعي اقتصادي سياسي لا نرى منه إلا النزر القليل وليست لدينا أيّ قدرة على التحكم بمساره، لأن مجموع القوى العاملة والمؤثرة فيه لانهائية، تتعذّر الإحاطة بها علميّا، والتحكّم بمسارها اجتماعيًا وسياسيًا. وإذا كان النموذج الأول يترك لنا فسحة من الأمل مصدرها أنّ للتاريخ مشيئته ومساره؛ فإنّ هذه الصيغة القاتمة تلغي أيّ غائيّة عن التاريخ. لا مسار للتاريخ ولا منطق له، وما هو إلا حزمة من المصائب حينًا والحظوظ الجيّدة حينًا آخر. هنا، يتعذر علينا أن نكتشف منطق التاريخ ليس نتيجة لقصر النظر الذي يتحكم بنا، بل لأنه لا يوجد هناك ما يمكن اكتشافه.
أمّا المدخل الثالث لمنطق الشك بإمكانية التغيير الجذري فإنّه يقوم على الفرضية القائلة بأنّ كل جسم معارض، وكل حركة احتجاج تحتاج إلى لغة مشتركة حتى تخاطب المؤسسة الحاكمة. فكل جسم معارض يفترض، إذ يخاطب المؤسسة، وجود قواسم لغوية ومعنوية مشتركة من شأنها أن تترجم قوة المعارضة إلى لغة يفهمها النظام وتفهمها المؤسّسة. إلاّ أنّ الخطر الدائم يكمن في أن يحتوي النظام المعارضة، حين تركن الأخيرة إلى استخدام اللغة والمفردات السائدة، فيتعزّز الإجماع بدل أن يتصدّع، وتعيد المعارضة إنتاج اللغة التي وجدت أصلاً لتتجاوزها. عليه، تجد المعارضة نفسها في الكثير من الأحيان تؤسّس للهيمنة التي ناضلت ضدّها. وبهذا المعنى أيضًا فإنّ القوى المهيمنة والمسيطرة تخرج مستفيدة دائمًا. فإذا غابت المعارضة وساد الصمت فهي مستفيدة، وإذا تطوّرت المعارضة فإنها مؤهلة لاستيعابها وتوظيف شرعية هذه المعارضة لتؤسس لشرعيتها هي.
كثيرة هي الحركات التي بدأت كحركات راديكالية وانتهت لتؤسس للنظام القائم. يحدث ذلك ليس لأن أصحابها قد خانوا قضيتهم إنما لأن هناك منطقا متناقضا يسيطر على حركات الاحتجاج في كل مكان. فإذا رغبت حركات الاحتجاج في أن تخاطب المركز وتؤثر عليه، عليها أن تستعمل علم المفردات الذي يستعمله المركز وإلاّ بقيت في الهامش. لكن هذا الاستعداد لتوظيف اللغة السائدة والمهيمنة من أجل إحداث تغيير من الداخل محفوف بالمخاطر؛ لأن ثمنه يدفع عدّا ونقدا بالتنازل عن القيم الراديكالية التي من أجلها وجدت حركات الاحتجاج هذه. بالمقابل فإن التمسك بلغة راديكالية بديلة من شأنه أن يضع هذه القوى في منطقة هامشية في المجتمع ويمنعها من القدرة على إحداث تغييرات في صلب النظام. إنّ التاريخ مليء بالشواهد على كلتا الحالتين: حركات راديكالية استوعبها النظام وحركات راديكالية حافظت على لغتها لكنها لم تخرج عن كونها حركات راديكالية على أطراف المجتمع والسياسة. بموجب هذا النموذج فإننا محكومون باللغة وجدلية المعاني والنظم المعرفية والرمزية، والخروج عن المبنى يفترض الخروج من المعنى وتجاوز اللغة، أي وعي اللاوعيّ وتطوير القدرة على إدارة رؤوسنا والالتفات إلى الخلف لدرجة تؤهلنا لرؤية ظهورنا، أي رؤية شروط حضورنا المفهومة ضمنًا.
إذا كانت هذه هي الحال، فمن أين يأتي الأمل؟ وما مبرّر هذا الأمل؟
الأمل قيمة لا تتّكئ على أحد، ولا تتعكّز على العقل، وتتألّق بذاتها، وتشعّ وحدها كنجمة الصبح
تقدّم الماركسية نموذجًا للأمل، ومن تجليات هذا الأمل مقولة بريخت في رواية الأم: “أيّها الوقت أنت أمل هذا الشعب”. إعتقد ماركس أنه من الممكن اكتشاف غائيّة التاريخ وخططه الخفيّة، بخلاف هيغل الذي شكّك في قدرتنا على القبض على مسار التاريخ خلال حدوثه. بحركة فكرية تذكّرنا بتوما الأكويني الذي جمع بين العقل والإيمان، حاول ماركس أن يجمع بين الذات والموضوع، بين رغبة التاريخ الموضوعية التي تقود إلى الحتمية التاريخية في إنشاء مجتمع شيوعي يسود فيه الرخاء والإخوة من ناحية، ورغبة البشر في استعجال هذا الغد الموعود. هذا الغد الذي أوكل التاريخ مهمة إنجازه إلى طبقة البروليتاريا والتي مهمتها تحرير ذاتها وتحرير البشرية جمعاء، وهذا الالتقاء بين مشيئة البشر وبين مشيئة التاريخ، بين الذات والموضوع، هو الذي يبشر بالغد المشرق ويعدنا بالنهاية السعيدة للتاريخ. ضمن هذا المنظور فإنّ مبعث الأمل هو وجود قوانين موضوعية للتاريخ إضافةّ إلى قدرتنا على اكتشاف هذه القوانين ومساعدة التاريخ في سعيه المتعثر دومًا نحو غايته، وإرجاعه إلى سكّته القويمة.
علمًا بأنّ هذا النوع من الأمل يعتمد بالأساس على وجود القوانين وعلى القدرة على اكتشافها، ليس مفاجئًا أنّ كثيرين من الذين عملوا بوحيٍ من الماركسية وناضلوا من أجل انتصار مشروعها، تراجعوا عن مشروعهم وهجرهم الأمل والحلم بغدٍ جميل. حدث ذلك في اللحظة التي اكتشفوا فيها أنّه لا وجود لحتمية تاريخية، وبعكس القطارات، لا توجد محطة نهائية للتاريخ، فانتقل الكثيرون منهم من التبشير بحتمية التاريخ إلى مواقع نيوليبرالية تفترض استحالة أيّ تغيير في التاريخ.
من أين يأتي الأمل إذًا، وكيف نعثر على مفرداته؟
يبقى الأمل عصيّا على القبض وهو لا يكمن في اكتشاف قوانين التاريخ وحتميته. الأمل لا يكمن في حتمية التقدم إنّما في إمكانية التقدم. إذ كما أنّه يتعذّر علينا أن نبرهن على أنّ التاريخ يسير بنا نحو النهاية السعيدة، فإنّه يتعذر علينا أن نبرهن أيضًا أنّنا نسير نحو الكارثة. هناك بعض النهايات السعيدة لبعض الثورات الكبيرة ولبعض المشاريع التاريخية، وقد يكون ذلك ضربًا من الحظ لا غير. هذا صحيح بالطبع، لكنّ الحظ يكون أحيانًا بحاجة لمن يساعده، أي حتى يحالفنا الحظ علينا أن نشارك في سحب اليانصيب أوّلاً. الأمل ينبع كالماء من أسفل الوادي وليس من قمّة الجبل. من أماكن أكثر تواضعًا وكذلك أكثر تماسكًا. قد يكون من المتعذّر علينا أن نرى ظهورنا، لكنّنا قد نستعين بالمرايا. كما قد يكون من المتعذر علينا الخروج من مغارة أفلاطون لننتقل من الظلّ إلى النور، لكن قد يكون من الممكن أن ننتقل من مغارة إلى مغارة. وقد يكون من المتعذّر علينا تجاوز مبنى اللغة ودلالاتها الرمزية، لكن من الممكن أن نراوح بين خطاب وخطاب، بين لغة وأخرى، بين هيمنة وهيمنة. لا يكمن هامش الحريّة المطلق في الخروج دفعةً واحدة من أيّ سياق للقوة، بل في القدرة على المناورة بين اللغات المختلفة وأساليب الهيمنة المتنوعة، عسانا في ذلك نوسّع هامش الحرّية، فندركها أسلوبًا للعيش وفنّ مقاومة القوّة والهيمنة والسلطة، لا هدفًا نسعى إلى الوصول إليه.
من هنا، فإنّ المقاومة والمعارضة والثورة ضرورية، ليس بصفتها حاجات اجتماعية وسياسية فقط، إنّما أيضًا باعتبارها حاجة نفسية ووجودية وجماليّة. نحن كبشر لا نستطيع العيش من دون أمل في إمكانية تغيير ظروف حياتنا. لقد انتبه كانط إلى طبيعة العقل الإنساني حين أشار في افتتاحية كتابه “نقد العقل الخالص” إلى أنّه من طبيعة العقل البشري أن يسأل أسئلة يدرك تمامًا أنّه غير مؤهل للإجابة عنها، مثل التساؤل عن وجود الله، والخلود والحرّية. وبوحيٍ من كانط يمكننا أن نقول إنّه من المتعذر على الروح الإنسانية أن تتوقف عن حلمها في التقدم نحو تحقيق حرّيتها، لأنّ الحرّية جوهر الإنسان. ليس لهذا الأمل أيّ أساس علميّ يقوم عليه، لكن ليس هناك أي أساس علمي لدحضه أيضًا. وباعتباره كذلك فإنّ الأمل قيمة لا تتّكئ على أحد، ولا تتعكّز على العقل، وتتألّق بذاتها، وتشعّ وحدها كنجمة الصبح. وإذا أخطأ ماركس حين اعتقد بإمكانية الجمع بين الذات والموضوع، فإنّه صدق حتمًا حين أشار إلى أنّه في محاولتنا لتغيير العالم، إنّما نغيّر أنفسنا ونخلقها من جديد.
” نحن محكومون بالأمل”- قالها سعدالله ونّوس مختزلا مائتي عام من الفلسفة.
المصدر: مجلة الدراسات الفلسطينية 2013 العدد 94
*رائف زريق: كاتب، وباحث أكاديمي، وقانوني، من فلسطين